نبذة عن كتاب نهج البلاغة
أوفى لي حكم القدر بالإطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمل. أصبته على تغير حال وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال. فحسبته تسلية للتخلية، فتصفحت بعض صفحاته، وتأملت جملاً من عباراته، من مواضع مختلفات، وموضوعات متفرقات. فكان يخيل إلي في كل مقام أن حروباً شبت وغارات شنت وإن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة، وأن للأوهام عرامة: وللريب دعارة. وإن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة، في عقود النظام وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الأبلج والقويم الأملج، وتمتلج المهج برواضع الحجج. فتفل من دعارة الوساوس وتصيب مقاتل الخوانس. والباطل منكسر ومرج الشك في خمود وهرج الريب في ركود. وأن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد وتحول المعاهد فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية: توحي إليها رشادها. وقوم منها مرادها، وتنفر بها عن مداحض المزال. إلى جواد الفضل والكمال، وطورا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاسرة، وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون رماها، واغتالت فاسد الأهواء وباطل الآراء.
إلا أن عبارات الكتاب لبعد عهدها منا، وانقطاع أهل جيلنا عن أصل لساننا قد نجد فيها غرائب ألفاظ في غير وحشية، وجزالة تركيب في مغير تعقيد، فربما وقف فه المطالع دون الوصول إلى مفهومات بعض المفرادات أو مضمونات بعض الجمل. وليس ذلك ضعفا في اللفظ في ذهن المتناول. أو هنا في المعنى وإنما هو قصور، ومن ثم همت بي الرغبة أن أصحب المطالعة بالمراجعة والمشارفة بالمكاشفة، وأعلق على بعض مفرداته شرحا وبعض جمله تفسرا وشيء من أشتاته تعيينا، واقفا عند الحاجة مما قصدت. موجزا في البيان ما استطعت. معتمدا في ذلك على المشهور من كتب اللغة والمعروف من صحيح الأخبار. ولم أتعرض لتعديل ماري عن الإمام في مسألة الإمامة أو تجريحه، بل تركت للمطالع الحكم فيه بعد الالتفات إلى أصول المذاهب المعلومة فيها، والأخبار المأثورة الشاهد عليها، غير أني لم أتحاش تفسير العبارة، وتوضيح الإشارة لا أريد في وجهي هذا إلا حفظ ما أذكر، وذكر ما أحفظ، وأرجو أن يكون فيما وضعت من وجيز البيان فائدة للشبان من أهل هذا الزمان فقد رأيتهم قياما على طريق الطلب، يتدافعون لنيل الأرب من لسان العرب.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.