نبذة عن كتاب جان دمو.. التركة والحياة
الكتابة ضرب من العبث تأخذ الطابع الجدي إذا ضمها كتاب هذه الجملة تلخص حكاية مجموعة جان الصغيرة “أسمال”، التي جمعت بين طياتها عصارة تجربته في الحياة والشعر، والتي أتيح لها أن تمارس حضوراً شبحياً حتى ذلك الوقت من داخل هامش مشوش خال من القوة، سرعان ما نفخ في رماد ذلك الشبح الذي تحول إلى ظاهرة دمرت بنى شعرية وثقافية لم تكن لكتيبة ذاك (أسمال) أو (أسمال الملوك) بصيغته الأولى مثلما جمعه حسين علي يونس في هذا الكتاب قبل أن يقوم جان بوضع لمسته الأخيرة عليه.
أما سبب تلقيبه بالشبح، وذلك يعود إلى حوار تم نشره في مجلة (ألف باء) طرح فيه المحاور سؤالاً على جان، وهو من أنت؟ وعلى الرغم من بساطة السؤال، فقد أثار الجواب الكثير من المشاكل، حيث تم تأويل إجابته بشكل سيء، كان جواب جان (أنا شبح) فيما تصدرت صورته الكاريكاتيرية الصفحة، كانت إجابة جان مجازته، وتقترب من حافة الحلم، لن يكن جان شبحاً، بالطبع كان شاعراً لكن منجزة لم يكن ثقيلاً ولم يكن واضحاً وصلباً مثلما تجلس فيما بعد بكتاب نحيل امسه أسمال، لقد كان جان شاعراً في حياته أكبر منه في نصه، تلك هي إحدى معضلاته الكبرى التي عاش منها طوال حياته القصيرة نسبياً، بعد رحيل جان كثر الكام والكتابة عن المجموعة التي خلفها.
ويمثل هذا الكتاب محاولة لتكريس مجموعته الشعرية التي جاءت تحت عنوان: (أسمال الملوك)، كان العنوان ملفتاً للنظر لذا اعتمده حسين يونس كمدخل لتلك المجموعة الصغيرة، وكان جان قد ارتأى أن يحذف (الملوك) وفضل الإحتفاظ بــ (أسمال) لأنه كان سيد الإختزال، لقد تجلت شاعرية جان في قصيدة بالغة الجمال (أه لم القوارب هذه)، والتي أثرت في شعراء كثر، من أصل سبع وعشرين قصيدة احتواها الديوان، كتب جان دومست قصائد تامة البناء.
وقد جاءت عناوينها وفق التسلسل الذي رددت فيه داخل المجموعة نفسها كالتالي: 1-مياه، 2-قصيدة في مطعم، 3-إلى رشدي العامل، 4-النهار وأعاجيبه، 5-أيكون القانون ضرورياً، 6-آه لم القوارب هذه.
وقد امتازت هذه القصائد بالبناء المحكم والتكثيف، وعبر هذه القصائد يمكن الحديث عن تجربة جان دمو الشعرية التي امتازت بالرهافة والخبرة، وقد كتب جان هذه القصائد بفترات زمنية متباينة من حياته التي امتدت لستين عاماً، لم يكن جان دمو يكتب الشعر إلا وفق الضرورات الملحة، كان يبحث عن صوت يحرره من عوامل الضغط، وكانت هذه الآلية تحقق له ما يصبو إليه، إتمام القصيدة بالطبع لم يكن همه، ربما كان الشعر عملاً نافعاً لدى جان، ولكنه كان عملاً متناغماً بحيث يظهر الجانب المشرق من الحياة عبر إظهار الجانب المأساوي من حياته التي كانت تحوطها الإجتهادات الغامضة، فيما لا يمكن قوله أو تخيله إلا فيما ندر.
كان جان شاعراً إلى حدّ النخاع، وبما أنه كان متفائلاً، لم تكن لتبدو عليه سمات الحزن إلا فيما ندر، وبالتالي فإن ساعات الصفاء التي كانت أحد مقومات الشاعر لم تكن تأتيه إلا في خلوات لا يتيحها الزمن له… هكذا هجر جان الشعر تحت وطأة ظروفه التماسية التي كانت تثقل عليه، لكن الشعر لم يهجره، ومن وسط هذه المعادلة ظهرت مجموعته الصغيرة التي مثلته خير تمثيل.
رغم ذلك ظل جان يقع تحت ثقل موهبته الزاوية التي كانت تبرق عبر سنوات طويلة كلما أتيح لها أن تظهر من بين كل الحواجز والغيوم؟… لذلك كانت تلك القصائد الناقصة مرتبطة بلحظة ولادتها التي ما كان لها أن تخرج عن هذا السياق أبداً… إن لحظة التوهج والصفاء في حياة جان نفسه كان قد انطفأت… هكذا الحال مع قصائد من مثل “لا الجبل ولا قمصان الموتى”، “أسمال الملوك”، “هكذا من وراء الآفاق”، “غيوم بدلاً من الحقائق”، “مسالك غير سالكة”، “أيكون الموت غياب الذاكرة”.
وجان دمو هو يوخنا يوسف شاعر عراقي ولد في مدينة كركوك عام 1942، وقد كان واحداً مما يسمى في العراق بــ “جماعة كركوك”؛ وهم شعراء كركوك الذين انتقلوا إلى بغداد، حيث كان لهم دور بارز في المشهد الأدبي العراقي، فمنهم سركون بولص، وفاضل العزّاوي، ومؤيد الرازي يذكر اسمه دائماً كأبرز وجوه ظاهرة الشعراء الصعاليك التي انتشرت في بغداد في الستينات، سافر في السبعينات إلى بيروت، ثم عاد إلى العراق ليسافر مجدداً إلى الأردن ويقضي فيها زمناً طويلاً، حتى ينتهي به المطاف في إستراليا التي توفي بها عام 2003 بالسكتة القلبية.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.